أسباب ظاهرة الإرهاب
في المجتمعات الإسلامية رؤية ثقافية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد :
فقد جاء الإسلام بتعاليمه السمحة ، ومبادئه القويمة ، ومقاصده العظيمة ، ليحفظ للناس دينهم ، ويوفر كرامتهم ، ويصون لهم حقوقهم وضروراتهم ، ويرشدهم إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم .
ولما كان الإرهاب اعتداء على نفوس الناس وأموالهم بغير حق وانتهاكًا لحرماتهم ، وأمنهم ومصالحهم ، كان لزاما أن تتضافر الجهود لمدافعته والقضاء عليه ، صيانة لضرورات الناس ، وأمنهم ومصالحهم ، وحماية لهم من تبعات الإرهاب وآلامه وشروره .
وقد آثرت أن أكتب في أسباب ظاهرة الإرهاب في المجتمعات الإسلامية - رؤية ثقافية - لأمور أهمها :
- أن فهم ظاهرة من الظواهر يتوقف على معرفة أسبابها وبواعثها ، فبتلك المعرفة نتمكن من التحكم فيها ، بتنميتها ، والمحافظة عليها إن كانت ظاهرة إيجابية ، والحد منها ، أو القضاء عليها إن كانت سلبية .
- الإسهام في تلمس الأسباب الحقيقية لظاهرة الإرهاب ، والكشف عنها وبيانها ، ولاسيما مع وجود بعض الاضطراب ، والتناقض أحيانا في تحديد أسباب هذه الظاهرة الخطيرة وبواعثها .
وقد جعلت هذا البحث في مبحثين هما على النحو الآتي :
- المبحث الأول : الأسباب المباشرة لظاهرة الإرهاب في المجتمعات الإسلامية .
- المبحث الثاني : الأسباب غير المباشرة لظاهرة الإرهاب في المجتمعات الإسلامية .
- ثم الخاتمة ، وثبت المراجع .
وقدمت قبل ذلك بتمهيد عرفت فيه بالإرهاب ، وبينت حكمه في الإسلام ، هذا والله -تعالى- أسأل العون والتوفيق والتسديد .
تمهيد
مفهوم الإرهاب وحكمه
1 - الإرهاب في اللغة : أصله أرهب ، يرهب ، إرهابًا وترهيبًا ،
والثلاثي منه : رَهِب بالكسر كعَلِم رَهْبة ورُهْبًا بالضم وبالفتح وبالتحريك : أي : خاف ، ورَهِب الشيء : خافه ، وأرهبه واستَرْهَبَه : أخافه ، والرهبة : الخوف والفزع .
قال ابن فارس : " رَهِبَ : الراء والهاء والباء أصلان : أحدهما يدل على خوف والآخر يدل على دقة وخِفَّة .
فالأول : الرَهْبة ، تقول : رهِبت الشيء رُهْبًا ورَهْبة ، ومن الباب :
الإرهاب : وهو قدع الإبل من الحوض وذيادُها .
والأصل الآخر : الرّهَب : الناقة المهزولة . . " .
فمعاني هذه الكلمة في اللغة تدور حول : الإخافة والترويع .
2 - الإرهاب في الشرع :
جاء ذكر لفظة " رَهِبَ ، وأَرْهَبَ " واشتقاقاتهما في القرآن في مواضع :
- منها في قوله تعالى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ قال ابن جرير : " يقول تخيفون بإعدادكم ذلك عدو الله وعدوكم من المشركين ، وعن ابن عباس : تخزون به عدو الله وعدوكم " 50 - ومنها في قوله تعالى : لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي : يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله .
ومنها في قوله تعالى عن سحرة فرعون : فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أي : أخافوا الناس من العصي والحبال ظنًا منهم أنها حيات .
- ومنها في قوله تعالى مخاطبًا بني إسرائيل : يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فبعد أن ذكرهم نعمه وإحسانه ، أمرهم بامتثال أمره واجتناب نهيه خوفًا منه ، وخشية له .
- ومنها ما أخبر به -سبحانه- عن عباده الصالحين أنهم يدعونه ويتقربون إليه رجاءً لثوابه ، وخوفًا من عقابه ، فقال سبحانه إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ قال القرطبي : " أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة ، وقيل : المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ، ورهبة وخوف " .
مما تقدم يتبين لنا أن مادة (رهب) واشتقاقاتها جاء استخدامها في نصوص القرآن وفق معناها اللغوي الذي يعني الإخافة للآخرين أو الخوف منه لقوته ولما يخشى من بطشه أو عقوبته ، وسواء وقع هذا الخوف من الله عز وجل ، أو من الخلق ، وأن من التخويف ما يكون بحق ومنه ما يكون بالباطل .
المختار في تعريف الإرهاب :
- هو الاعتداء المنظم من فرد أو جماعة أو دولة على النفوس البشرية ، أو الأموال العامة أو الخاصة بالترويع والإيذاء والإفساد من غير وجه حق .
شرح التعريف وبيان محترزاته :
- الاعتداء المنظم : أي الظلم الذي يقع على صورة مرتبة ومتسقة لتحقيق أهداف عامة سياسية أو اقتصادية . . وله بواعثه العقدية أو الفكرية .
- من فرد : ينتمي إلى أيدلوجية أو حزب أو جماعة ، ويقصد بعمله تحقيق أهداف عامة سياسية أو اقتصادية .
- أو جماعة : تستخدم العنف أو التهديد به للوصول إلى أغراضها .
- أو دولة : تنشر الذعر والخوف أو تنهج وسائل العنف لبسط هيمنتها ونفوذها على أفراد مجتمعها أو على المجتمعات الأخرى .
- على النفوس البشرية : أي على جنس الإنسان أيًّا كان دينه أو عرقه أو لونه .
- بغير حق : أي بغير جُرم يسوغ الاعتداء أو الإيذاء ، والمعيار في ذلك هو نصوص الشريعة ، والعقل الصريح ، والفطرة السوية ، على أن الأصل الأصيل هو حرمة النفوس والأموال وعصمتها سواء كانوا مسلمين أو مسالمين من ذميين ومستأمنين ومعاهدين إلا أن يأتوا بما يوجب معاقبتهم ، فيخرج بهذا القيد الاعتداء (الإرهاب) بحق كالتخويف والإيذاء للدول المعتدية على غيرها بالترويع والقتل والتشريد والتخريب ؛ لأنه انتصار للنفس ، ومدافعة للظلم ، ودفاع عن الدين والنفس والعرض والأرض والمال .
حكم الإرهاب
الإرهاب بهذا المعنى محرم وممنوع منه شرعًا ، لأنه عدوان على الناس ، وسعي في الأرض بالفساد ، وقد قال تعالى : مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وقال تعالى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ وقال تعالى : وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا قال القرطبي : "نهى - سبحانه- عن كل فساد قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر فهو على العموم على الصحيح من الأقوال " .
أما عقوبة من قام بشيء من تلك الأعمال فتختلف ولكنها قد تصل إلى القتل إذا كان من أعمال الحرابة أو يفوقها في الشر والضرر ، وقد صدر عن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية عام 1409هـ " قرار رقم 148 " بيان لعقوبة من قام بأعمال تخريبية جاء فيه : " من ثبت شرعًا أنه قام بعمل من أعمال التخريب والإفساد في الأرض التي تزعزع الأمن بالاعتداء على الأنفس والممتلكات الخاصة أو العامة كنسف المساكن أو المساجد أو المدارس أو المستشفيات والمصانع والجسور ومخازن الأسلحة والمياه والموارد العامة لبيت المال كأنابيب البترول ، ونسف الطائرات أو خطفها ونحو ذلك ، فإن عقوبته القتل لدلالة الآيات المتقدمة على أن مثل هذا الإفساد في الأرض يقتضي إهدار دم المفسد ؛ ولأن خطر هؤلاء الذين يقومون بالأعمال التخريبية وضررهم أشد من خطر وضرر الذي يقطع الطريق فيعتدي على شخص فيقتله أو يأخذ ماله ، وقد حكم الله عليه بما ذكر في آية الحرابة " .
المبحث الأول
الأسباب المباشرة لظاهرة الإرهاب في المجتمعات الإسلامية
تمهيد
قبل الحديث عن أسباب الإرهاب في المجتمعات الإسلامية أرى لزامًا التنبيه إلى عدد من المسائل .
الأولى : أن أسباب الإرهاب تختلف في درجة أهميتها ، وفي مدى تأثيرها باختلاف المجتمعات الإسلامية ، تبعًا لاختلافها في اتجاهاتها السياسية ، وظروفها الاقتصادية والاجتماعية ، وأحوال شعوبها الدينية ، ولذا فإن ما يصدق على مجتمع قد لا يصدق بالضرورة على غيره .
الثانية : أن الحكومات في العالم الإسلامي تختلف اختلافًا كبيرًا في مواقفها من الدين والتدين في المجتمعات التي تتولى شئونها ، كما تتفاوت تفاوتًا ظاهرًا في مدى رعايتها لمصالح الناس الدنيوية ، وتيسير أسباب الحياة الكريمة لهم ، ففي حين نجد من الحكومات من تعظم شأن الدين وتجعله أساس أنظمتها ، والمهيمن على شئون الحياة فيها كالمملكة العربية السعودية ، فإننا في المقابل نجد من الحكومات من ليست مواقفها من الدين أو ممن يدعو إلى الأخذ به منهجًا للحياة إيجابية أو مرضية .
وهذه المواقف لها أثرها في المجتمعات ، من حيث استقرارها ، وتوجهات أفرادها ، وطبيعة الصلات والعلاقات فيها ، ولا سيما بين الناس وولاة أمورهم .
الثالثة : أن أعمال العنف والإرهاب - من قتل وتفجير وإفساد في الأرض- هي من المصائب التي ابتليت بها المجتمعات الإسلامية وغيرها ، ومن المعلوم من نصوص الشريعة أن المصائب التي تلحق بالأفراد أو المجتمعات سببها الرئيس هو التفريط في أمر الله عز وجل ، والوقوع فيما نهى عنه ، كما قال الله تعالى : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ فما يصيب " الناس من ضر وضيق مالي ، أو أمني ، فرديًّا كان أو جماعيًّا ، فبسبب معاصيهم ، وإهمالهم لأوامر الله عز وجل ، ونسيانهم شريعة الله ، والتماسهم الحكم بين الناس من غير شريعة الله الذي خلق الخلق ، وكان أرحم بهم من أمهاتهم وآبائهم ، وكان أعلم بمصالحهم من أنفسهم " .
الرابعة : أن استيعاب الأسباب المؤدية إلى الغلو والإرهاب أمر بعيد المنال ، لأن طرق الغي والضلال غير منحصرة ، ولكن حسبي في هذا البحث أن أبرز - ما أراه - أهم الأسباب وأكثرها أثرًا في بروز هذه الظاهرة الخطيرة في المجتمعات الإسلامية .
أولًا - الانحراف الفكري والقصور في العلم الشرعي
إن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها فكره وعقيدته ، فالإنسان مقود أبدًا بفكرة صحيحة أو فاسدة .
وعلى هذا فإن السبب الرئيس للغلو وسلوك سبل العنف والإرهاب انحراف الفكر وضلاله ، والتباس الحق بالباطل لدى أصحاب هذا الاتجاه .
ولهذا الانحراف الفكري أسباب ، منها :
1 - الخلل في منهج التلقي ؛ حيث تتلمذ طائفة من الغلاة على من لا علم عنده ، أو على أنفسهم ، فلا يقتدون ولا يهتدون بما عليه العلماء الراسخون ، بل يقدحون فيهم ، ويلمزونهم وهؤلاء الغلاة يعتدون بآرائهم ، وينساقون مع أهوائهم ، فيحرمون العلم النافع المتلقى من مشكاة النبوة وأنوار الرسالة ، ويقعون في ضروب من الضلال ، والقول على الله بغير علم ، فيَضلون ويُضِلون .
وقد دلت النصوص على لزوم تعظيم العلماء ، والتوجيه إلى سؤالهم ، والصدور عنهم ، قال تعالى : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وقال صلى الله عليه وسلم : إن العلماء هم ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر .
فالعلماء هم الذين يخلفون الأنبياء في العلم بالدين وأحكامه ، وفهم نصوصه ، وفي الدعوة إلى الله ، وبيان ما يحتاجه الناس من أمور دينهم مما تصلح به عباداتهم ومعاملاتهم ، وتستقيم به صلاتهم بغيرهم .
ولذا فإن الواجب على آحاد المسلمين الرجوع إلى العلماء الراسخين ، والصدور عن رأيهم ، ولا سيما في القضايا التي تتعلق بمصالح الأمة ، حتى تكون أقوال المرء وأفعاله مضبوطة بالأدلة الشرعية .
كما أن على العلماء أن يوسعوا للشباب صدورهم ، وأن يتلقفوهم بأيد حانية تذللهم للحق ، وتصرف عاطفتهم إلى ما يرضي الله تعالى ، وتوجه طاقاتهم إلى ما يعود عليهم وعلى مجتمعاتهم بالخير والنفع .
2 - الأخذ بظواهر النصوص دون فقه ولا اعتبار لدلالة المفهوم ، ولا قواعد الاستدلال ، ولا الجمع بين الأدلة ، ولا اعتبار لفهم العلماء ، ولا نظر في أعذار الناس .
وهذا المنهج سبب لصنوف من الانحراف والضلال ، وأشد ذلك وأعظمه خطرًا التكفير ، والحكم بذلك على الأشخاص والجماعات والأنظمة دون فقه أو تثبت ، أو اعتبار للضوابط الشرعية ، وهو ما وقع فيه بعض الأفراد والجماعات في هذا العصر ، حيث توجهوا إلى تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله ، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ورتبوا على ذلك استباحة الدماء والأموال ، والاعتداء على حياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم ، والاعتداء على مصالحهم العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها ، فحصل بذلك فساد كبير في المجتمعات الإسلامية .
وقد جاءت النصوص بالتحذير من التكفير ، والوعيد الشديد لمن كفر أحدًا من المسلمين ، وليس هو كذلك ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما .
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من دعا رجلًا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه .
كما دلت النصوص على أن التكفير - كسائر الأحكام الشرعية - لا يتم إلا بوجود أسبابه وانتفاء موانعه ، ولذا قد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر ، ولا يكفر من اتصف به لوجود مانع يمنع من كفره كالإكراه .
وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما ، فلا يكفر بها لعدم القصد كما في قصة الذي قال : " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " أخطأ من شدة الفرح ، وكالذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله ، فقال لأهله : إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف ، ففعلوا به ، فجمعه الله ثم قال : ما حملك على الذي صنعت؟ قال : ما حملني عليه إلا مخافتك فغفر له .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فهذا رجل شك في قدرة الله ، وفي إعادته إذا ذُري ، بل اعتقد أنه لا يعاد ، وهذا كفر باتفاق المسلمين ، لكنه كان جاهلًا لا يعلم ذلك ، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه ، فغفر له بذلك ، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من ذلك " .
هذه الضوابط ونحوها مما بينه العلماء ، وفصلوا القول فيه تبين خطأ منهج أهل التكفير ، وغلوهم وضلالهم عن منهج سلف الأمة .
وبالجملة فإن الواجب مراعاة قواعد الاستدلال ؛ برد المتشابه إلى المحكم ، والمجمل إلى المبين ، والجمع بين النصوص ، واعتماد تفسير الصحابة رضي الله عنهم وفهمهم للنصوص ، فهم قد عاشوا وقت تنزل الوحي ، وأعلم باللغة ومقاصد الشرع ، ثم آثار السلف الصالح أئمة الهدى الذين يقتدى بهم بهذا يتوصل إلى الحق ، وتحصل السلامة من الزيغ والضلال .
3 - الجهل بمقاصد الشريعة ؛ وهي غاياتها ، والحكم والمعاني والمصالح التي شرعت الأحكام من أجلها والتي تعود إلى إقامة المصالح الأخروية والدنيوية .
والواجب مراعاة هذه المقاصد حتى تكون الأعمال صالحة ومعتبرة شرعًا ، وإنما يدرك هذه المقاصد الراسخون في العلم بالشريعة ، وتفاصيل أحكامها ، وغايات تشريعاتها .
وأما غير الراسخ في العلم فيأخذ بجزيئات من النصوص ، ويقول فيها برأيه ، فيهدم كليات ويعطل مصالح عامة معتبرة ، وربما اقترن بالجهل بالمقاصد بعض الأهواء الكامنة في النفوس الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل ، والمانعة من الاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الإنسان .
قال الشاطبي رحمه الله : " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا ، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يئول إليه ذلك الفعل ، [ فقد يكون ] مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب ، أو لمفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه ، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ، ولكن له مآل على خلاف ذلك .
فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها ، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية .
وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية ، وهو مجال للمجتهد صعب المورد ، إلا أنه عذب المذاق ، محمود الغب ، جار على مقاصد الشريعة " . .
- ومن صور الخلل في اعتبار المصالح والمفاسد - في هذا العصر- الدعوة من بعض الجماعات أو التنظيمات إلى الاعتداء على مصالح بعض الدول المعتدية ، وعلى رعاياها ، في بلادهم وفي سائر الدول - الإسلامية وغيرها- ووصف ذلك بالجهاد ، واعتقاد أن في ذلك تحقيقًا لمصالح الأمة .
والحق أن في هذا من المفاسد ، والمخالفات الشرعية ، والتعارض مع مقاصد الشريعة - ولا سيما مع النظر في واقع الأمة المسلمة اليوم مع أعدائها - ما يوجب القطع بحرمته .
فمن ذلك : إخفار ذمم المسلمين بالاعتداء على المعاهدين والمستأمنين ، واستبدال الأمن بالخوف في المجتمعات الإسلامية الآمنة ، وإراقة الدماء المعصومة ، والإفساد في الأرض .
ومنها التنفير من الإسلام ، وتهييج الأمم الكافرة ، واتخاذهم من تلك الأعمال ذرائع يتسلطون بها على أهل الإسلام .
وقد ذكر العز بن عبد السلام رحمه الله : أن أي قتال للكفار لا يتحقق به نكاية بالعدو فإنه يجب تركه ، لأن المخاطرة بالنفوس إنما جازت لما فيها من مصلحة إعزاز الدين والنكاية بالمشركين ، فإذا لم يحصل ذلك وجب ترك القتال ، لما فيه من فوات النفوس ، وشفاء صدور الكفار ، وإرغام أهل الإسلام ، وبذا صار مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة .
ثانيًا - الموقف السلبي من الصحوة الإسلامية
شهدت البلاد الإسلامية في العقود الأخيرة عودة للدين ، وتوجهًا لتمسك بتعاليمه ، وقد امتد أثر ذلك إلى أرجاء العالم كله ، وقد أسهم في هذه العودة المباركة عوامل عدة ؛ منها بعض الولاة والقادة المخلصين لدينهم الذين حرصوا على إيصال دعوة الإسلام إلى الناس كافة من خلال وسائل الإعلام ، والقنوات الفضائية التي تبث من بلادهم ، ومن خلال تبنيهم إقامة المراكز الإسلامية للمسلمين في الدول غير المسلمة ، وقد كان للمملكة العربية السعودية جهود مميزة في هذا الميدان .
كما أسهم في هذا التوجه أيضًا ثلة من العلماء المخلصين العاملين ، والدعاة الناصحين ، وبعض أصحاب الأموال الباذلين لنصرة الدين .
إلا أن هذه العودة الخيرة لم يصاحبها في بعض الدول الإسلامية تفاعل إيجابي في احتضان هذا التوجه وتبنيه ، وتسديد حركته ، بل إن بعض الدول التي اتخذت من المنهج العلماني أساسًا لمناهجها السياسية والاقتصادية والتعليمية والتشريعية . . وغيرها ، قابلت ذلك بمزيد من القيود والضوابط على الأنشطة الإسلامية ، والمشروعات الخيرية ، بل توجهت إلى فرض صور جديدة من التغريب للمجتمع في قضايا المرأة ، والتعليم ، والتشريع وغيرها .
هذه المواقف غير المحمودة دفعت طوائف من الشباب إلى أن يسيئوا الظن بولاتهم ، وأن يضمروا السوء لهم ، كما كان من آثار ذلك أن اندفع بعضهم إلى أضراب من السرية ، واتخذوا العنف منهجًا لهم .
والمؤمل في قادة الدول الإسلامية وهم يحكمون شعوبًا مسلمة ، محبة لدينها معظمة له - وإن أخلت ببعض واجباته ، أو قارفت بعض منهياته - أن يبذلوا في تصحيح أوضاع بلادهم ، وأن يقفوا إلى جانب التوجهات الإيجابية والخيرة في مجتمعاتهم ، وأن يمكنوا للعلماء والدعاة من توعية الناس بدينهم ، ليسهموا في ترشيد حركتهم ونشاطهم ، ليسيروا وفق منهج الإسلام المعتدل بعيدًا عن الغلو أو الجفاء .
بهذا تتعاظم الثقة بين حكام البلاد الإسلامية ورعاياهم ، ويكونوا يدًا واحدة على من ناوأهم .
ثالثًا - كيد الأعداء وظلمهم للمسلمين
إن العداء بين الحق والباطل قديم ، وهو باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فمنذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ومؤامرات الأعداء ومكرهم وكيدهم لهذا الدين ، ولرسوله وأتباعه يتتابع ، وقد بين الله تعالى موقف الأمم الكافرة من المسلمين فقال عز وجل : وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا .
قال ابن كثير رحمه الله : " أي هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين " وقال ابن سعدي - رحمه الله - : " هذا الوصف عام لكل الكفار ، لا يزالون يقاتلون غيرهم حتى يردوهم عن دينهم ، وخصوصًا أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ألفوا الجمعيات ، ونشروا الدعاة ، وبثوا الأطباء ، وبنوا المدارس لجذب الأمم إلى دينهم ، وإدخالهم عليهم كل ما يمكنهم من الشبه التي تشككهم في دينهم " .
وإذا تجاوزنا تاريخ الصراع بين المسلمين وأعدائهم من الكفار على اختلاف مللهم وأجناسهم إلى العصر الحاضر ، نرى أن المجتمعات الإسلامية عاشت في العقدين الماضيين صورًا من التسلط والظلم من الدول ذات النفوذ - وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية - من احتلال لبعض البلاد الإسلامية ، وحصار لأخرى ، ومن ضغط متواصل عليها بعامة للتأثير في المواقف والاتجاهات والسياسات الداخلية والخارجية .
كما باركت تلك الدول صور القهر والإذلال والقتل والتدمير الذي تمارسه الحكومات اليهودية المتتابعة على شعب فلسطين المسلم .
كما وقف الغرب مع أصحاب التوجهات المناوئة للدين - أفرادًا وأحزابًا - في المجتمعات الإسلامية ، وعمل على التمكين لها في مجتمعاتها .
وأخيرًا فقد حرصوا أن يتهم المسلمون خاصة بالإرهاب ، لتسويغ ما يقوم به من حملات عسكرية ، وضغوط اقتصادية ظالمة على الدول والشعوب الإسلامية ، كما جعل من ذلك ذريعة إلى أن يوقف من تنامي المد الإسلامي ، وأن يحد من نشاط الجمعيات الإسلامية والمؤسسات الخيرية .
هذا الظلم والتسلط من الغرب يجعله مسئولًا مسئولية مباشرة عن التطرف في العالم الإسلامي ، وسببًا رئيسًا لكثير من صور الإرهاب الشائعة في المجتمعات الإسلامية .
ولا شك أن من المتعين النظر في حال الأمة الإسلامية ، وإلى موقعها بالنسبة لأعدائها ، فمن الرشد الحذر مما يوجب مزيدًا من تسلط الكفار على المسلمين ، والعمل على إبعاد الأمة عما يجلب لها الآلام والمآسي ، والتبعات المؤلمة .
إلا أنه مع هذا كله ، فإن على الأمة المسلمة - حكامًا ومحكومين - الثبات على الدين وقيمه ومبادئه الحقة ، فهو أساس وجودها ، ومصدر عزها ، وسبيل نجاتها في الدنيا والآخرة .
كما أن عليها أن تأخذ بالأسباب المعينة على ذلك ، ومنها توحيد صفها ، واجتماع كلمتها على أساس المبادئ والقيم التي تؤمن بها ، والثوابت التي ارتضت أن تقيم شئون حياتها وفق مدلولاتها .
رابعًا - القصور والتبعية في مناهج التعليم
لقد كان من آثار الاستعمار والتغريب أن أسس التعليم في كثير من البلاد الإسلامية وفق النظام الغربي في مناهجه ، ووسائله ، وغاياته .
ولم يسلم ما بقي من العلوم الإسلامية والعربية من المسخ والتشويه ، فتاريخ الأمة الإسلامية ، وآدابها وتراثها الفكري يدرس من وجهة نظر الغرب ، وحسب مقاييسه .
والمقررات الشرعية حذفت ، أو خففت لتكون مجرد ومضة روحية خافتة الضياء ، ضعيفة التأثير ، وما يدرس منها لا يفي بالقدر الواجب تعلمه على كل مسلم في أمور عقيدته ، وعباداته ، ومعاملاته .
وأما المعاهد الدينية والكليات الشرعية فحوصرت ، أو ألغيت تجفيفًا لمنابع التدين وموارده .
ولما كان التدين فطرة إنسانية مشتركة بين الأمم ، ثم هو أيضًا واجب شرعي ، فقد أدى انحراف التعليم ، وانصرافه عن تعليم القدر الضروري من العلوم الشرعية ، إلى أن يحرم الناس من تعلم أمور دينهم ، كما كان من آثار ذلك أن يلجأ طوائف من أفراد المجتمع ، ولا سيما الشباب منهم إلى من يجدون فيهم الغيرة على الدين ، وإظهار الاستقامة عليه ، ولو صاحب ذلك قلة في العلم ، وضعف في البصيرة ، وجهل بمقاصد الشريعة ، أو يكون لديهم شطحات فكرية ، ونظرات غالية ، فتبرز بسبب ذلك تيارات الغلو والتكفير ، الممهدة للعنف والإرهاب .
ولا شك أن الواجب إصلاح مناهج التعليم بما يتوافق مع مبادئ الأمة وثوابتها ، وقيمها وموازينها ، وأن يكون للمقررات الشرعية - عقيدة وعبادة وأخلاقًا - القدر الذي تتحقق به الكفاية ، ليكون التعليم مصدر هداية وتوجيه وتهذيب ، يغرس في نفوس الأجيال قوة هادية موجهة ، وقوة مؤثرة دافعة ، تنظم دوافع الفرد ، وتوظف سائر قواه لتفيض بالخير والبر ، ولما يعود عليه وعلى مجتمعه بالفائدة ، والمنفعة ، وإن " من الخطأ البين أن نظن أن في نشر العلوم ، والثقافات وحدها ضمانًا للسلام والرخاء ، وعوضًا عن التربية والتهذيب الديني والخلقي ، ذلك أن العلم سلاح ذو حدين يصلح للهدم والتدمير ، كما يصلح للبناء والتعمير ، ولا بد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي يوجه لخير الإنسانية وعمارة الأرض ، لا إلى نشر الشر والفساد ، ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان "
خامسًا - التأثير السلبي لبعض وسائل الإعلام
تعد وسائل الإعلام في هذا العصر من أكثر الوسائل تأثيرًا في فكر الناس ، وأخلاقهم وسلوكهم ، وفي بناء توجهاتهم ، لشدة سيطرتها على عقول الناس ، واستحواذها على اهتماماتهم وأوقاتهم ، وقوة تأثيرها فيهم .
والأصل في الإعلام على اختلاف وسائله أن يقدم للناس المعلومات النافعة ، والحقائق الثابتة ، والأخبار الصحيحة ، ليكون بذلك أداة توجيه وبناء ، ومصدر معلومات موثوقة .
إلا أن الواقع في بعض الأحيان بخلاف ذلك ، حيث اتخذ من الإعلام وسيلة للدعاية لأفكار وتوجهات معينة ، ومهاجمة ما يضادها أو يخالفها ، كما أضحى الإعلام اليوم أداة من أدوات الصراع الثقافي والعسكري بين الأمم .
وأما عن صلة الإعلام بقضايا الغلو والعنف والإرهاب ، فتظهر من خلال ما يصدر عن بعض وسائل الإعلام في البلاد الإسلامية من مقالات صحفية ، أو ندوات ثقافية ، أو مسلسلات ومسرحيات تهزأ بالدين وأهله ، وتسخر من القيم الإسلامية ، ومن بعض الأحكام الشرعية ، والمبادئ الإسلامية الثابتة .
والإعلام بهذا التوجه يستثير مشاعر الناس ، ويؤجج بواعث الغضب في نفوسهم ، حمية لدينهم ، وانتصارًا لقيمهم الإسلامية الحقة ، ولا شك أن هذا الغضب محمود ، لأن المؤمن يجب عليه أن يغضب لله عز وجل ، ولا يرضى أن تنتهك محارمه ، ولكن وربما غلا بعض الناس في الرد والمدافعة ، وزاد عن الحد المشروع ، فسلك مسالك الشدة والعنف ، فتحصل بذلك الفتن ويعم الفساد في الأرض .
والواجب أن يقف الإعلام - في ظل هذا الدين القويم - عند حدود رسالته ، مصدر خير وإشعاع ، ومنبر دعوة للقيم والفضائل ، لا يقدم من خلاله إلا ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم ، وأن تكون الكلمة فيه مثمرة ولا مدمرة ، ليسهم مع غيره من دور التربية والتعليم وغيرها في تربية الأمة ، وبناء الأجيال ، وغرس القيم الحقة ، والمفاهيم الإيجابية ، فالأمة اليوم بأمس الحاجة إلى الكلمة الطيبة ، والدعوة الصادقة ، والمشورة الناصحة ، ليجتمع صفها ، وتتحد كلمتها ، وتأمن مكر أعدائها .
كما أن من المتعين على من بيده الأمر ، الوقوف بحزم من الأقلام الساخرة والمضللة ، والمسلسلات الهابطة ، مما يمس عقائد المسلمين وأخلاقهم وقيمهم ، وتراثهم الأصيل ، صيانة لدين الأمة وقيمها وثقافتها ، وقيامًا بالأمانة ، ونصحًا للأمة ، ودرءًا لأسباب الشر والفساد والفتنة .
قال الماوردي - رحمه الله - مبينًا واجبات ولي الأمر : " والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء :
أحدها : حفظ الدين على أصوله المستقرة ، وما أجمع عليه سلف الأمة ، فإن نجم مبتدع ، أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة ، وبين له الصواب ، وأخذه بما يلزم من الحقوق والحدود ، ليكون الدين محروسًا من خلل ، والأمة ممنوعة من زلل " .